لقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الضحك إذا ضحك أصحابه ويعجب مما يتعجبون، كما سيأتي تنبيها للذين لا يضحكون بحجة أو بغير بحجة، فليس من عادة الكرام أن يقطع المسلم على أخيه المسلم بهجته وسلوته بعبوس وقطوب بحجة أنه لا يضحك، أو حتى لا يبتسم، لأن الضحك قد يسقطه من منزلته ورتبته كما قد يظن بعض المغترين·
ففي كتاب الله تعالى قصة لنبي كريم، نبي ملكه عظيم، أوتي النبوة والملك، فمن مثله؟ لكنه يضحك في غير كبر وتعال، كما قال الله تعالى عن سليمان عليه السلام (فتبسم ضاحكا من قولها)·
يروي لنا ابن ماجة رحمه الله أن أبا بكر رضي الله خرج في تجارة إلى بُصرى قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بسنة، وخرج معه نعيمان وسويبط ـ اثنان ممن شهدوا بدرا، وأصحاب بدر لهم مكانة رفيعة وسامية ـ وكان نعيمان على الزاد وقوت السفر فجاء سويبط وكان رجلا مزاحا فقال له: أطعمني· قال نعيمان: حتى يجيء أبو بكر· فقال سويبط: لأغيظنك· ـ أي لأغضبتك· فمروا بقوم فقال لهم سويبط: تشترون مني عبدا لي؟ قالوا: نعم· قال: إنه عبد له كلام وهو قائل لكم إني حر، فإن كنتم إذا قال لكم هذه المقالة تركتموه فلا تفسدوا علي عبدي· قالوا: لا، بل نشتريه منك· فاشتروه بعشر من النوق ثم أتوا نعيمان فوضعوا العمامة في عنقه فأخذ يقول: إني حر لست بعبد· فقالوا: قد أخبرنا خبرك· فلما جاء أبو بكر وأخبروه رد عليهم قلائصهم ـ أي النوق ـ ورجع بنعيمان، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه ضحك عليه الصلاة والسلام وأصحابه منه حولا ـ أي سنة ـ كلما تقادم الخبر ذكروه فيضحكون·
لكن الضحك كما بينه العلماء أقسام وأنواع، أدناه التبسم وأوسطه الضحك وأعلاه القهقهة·
أما التبسم فهو مبتدأ الضحك وهو انفراج الفم بلا صوت، وهو يمثل أقل الضحك وأحسنه، ويكون غالبا للسرور، كما فعل سليمان عليه السلام، والتبسم هو أكثر ضحك الأنبياء، كما قال الزجاج، والبسمة من ضمن ما أوصى به النبي الناس، ومن قبيل المعروف الذي أمرنا به دون أي تكليف، فقال: ''لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تكلم أخاك ووجهك إليه منبسط''· والبسمة تعبير عن حمد الله على نعمائه وعن الرضا عن عطائه سبحانه، والابتسامة صدقة من غير بذل وأجر من غير إعطاء· قال النبي عليه الصلاة والسلام: ''وتبسمك في وجه أخيك صدقة''· وهي دليل التسامح، وكم نحن في حاجة إليها في كل أحوالنا·
وأما الضحك فهو أعم من التبسم، قال ابن حجر، رحمه الله: ''إن كان بصوت وكان بحيث يسمح من بعد فهو القهقهة وإلا فهو الضحك، وإن كان بلا صوت فهو التبسم''· والضحك جبل عليه الإنسان من دون سائر الحيوانات، وهو آية الله في خلقه، حيث قال: ''وأنه أضحك وأبكى''· فسبحان الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم· وقد ندب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الناس إلى الضحك المحمود الذي يكسب المودة ولا يجلب العداوة، فقال لجابر كما في الصحيحين: ''تزوجت يا جابر؟'' قال: نعم· قال: ''بكرا أم ثيبا؟''· قال: بل ثيبا· قال: ''فهلا جارية تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك''· فينبغي لمن كان عبوسا منقبض الوجه أن يبتسم ويحسن من خلقه ويمقت على نفسه رداءة سلوكه، فكل انحراف عن الاعتدال مذموم، قال جرير بن عبد الله: ما رآني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، منذ أسلمت إلا تبسم في وجهي·
وثالث قسم من أقسام الضحك هو القهقهة، وهذا النوع مخالف لهدي الرسول، صلى الله عليه وسلم، حيث كان لا يكثر الضحك ولا يقهقه به، بل كان وقورا متزنا هادئا كما وصف، قالت عائشة رضي الله عنها: ''ما رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مستجمعا ضاحكا قط حتى أرى منه لهواته وإنما كان يتبسم''· واللهاة هي اللحمة التي بأعلى الحنجرة من أقصى الفم، ولا تبدو إلا إذا فتح المرء فكه عن آخره، فيصير المرء في منظر قبيح مستهجن، ولذلك ما كان النبي صلى الله عليه وسلم ليظهر في هذه الصورة·